كانت أمسية صيفية نادرة جميلة .. تجمع فيها أفراد العائلة الكبيرة .. فكم أصبحت قليلة تلك التجمعات العائلية بعد أن تنوعت وتفرعت مشاغل الحياة ومشاكلها .. وكنا – أنا وزوجتى – نحتفل بتخرج أول أحفادنا من الجامعة وسط جو أسرى بهيج .. نتبادل الحكايات والطرائف .. تتعالى ضحكاتنا تارة .. وتقتحم الدموع عيوننا تارة أخرى حسب سير الحكايات .. والصغار يلعبون ويلهون ويمتعوننا ببراءتهم .. ولم يعكر صفو تلك الأمسية الرائعة إلا انقطاع التيار الكهربائى ..

خيم الصمت والهدوء على المكان .. وأضيئت الشموع .. والكل فى انتظار عودة التيار ليستكملوا أمسيتهم .. إلا أن التيار كان له رأى آخر .. فأطال غيبته .. ولم يبد إشارات عودته .. ومللنا نحن الانتظار .. وبدأت أحاديثنا تعود مرة أخرى إلى الجلسة بعد أن اعتدنا الوضع ..

تأخذنا الأحاديث مرة إلى السياسة وأخرى إلى الرياضة .. وتتقاذفنا أمواج الكلمات لترسو بنا على شواطئ الذكريات .. وأخذ الجميع كل منهم يفتش فى ذاكرته عن أغرب وأعجب المواقف التى مر بها .. حتى يسردها ويأسر بها لب السامعين .. فمنهم من يحكى عن مغامراته فى فترة الشباب .. ومن يحكى عن تجربة سفره إلى الخارج .. ومنهم من يأخذه الحديث إلى فترة قضاء الخدمة العسكرية وما واجهه من صعاب خلالها .. نضحك تارة ونستعجب تارة أخرى .. ولكن الهدف الأهم قد تحقق .. ألا وهو استكمالنا للأمسية رغم انقطاع التيار ..

وكنت أجلس صامتا .. أتابع أحاديثهم بشغف .. وأتمتم بكلمات الحمد على تلك العائلة الكبيرة التى كونتها بفضل الله .. وبين الآونة والأخرى أنظر إلى زوجتى على ضوء الشموع .. فألمح حركات شفتيها فأتأكد من مشاركتها لى فى حمد الله وشكره ..

وفجأة توقف الجميع عن الكلام .. وتوجهوا بأنظارهم إلى .. وعيونهم كلها تتطالبنى أن أشاركهم الحديث .. فأحكى لهم عن تجربة مثيرة مررت بها أو موقف غريب تعرضت له .. فمن المؤكد أن هذا العمر الطويل قد جمع من المواقف والحكايات والنوادر ما يحتاج من الوقت لعشرات الجلسات لسرده .. ورغم رفضى الحديث فى البداية وتأكيدى لهم أننى أكثرهم استمتاعا بتجمعهم حولى إلا أننى استجبت لرغبتهم فى النهاية تحت ضغط إلحاحهم ..

وأخذت أفتش فى ذاكرتى عن الحكايات .. فأجد الكثير والكثير .. لا أعرف أيهم أختار .. ولكن واحدة منهم – ترددت كثيرا قبل أن أحكيها – قد نالت شرف الاختيار ..

كنت وقتها فى الثانوية العامة – التوجيهية كما كان يطلق عليها فى تلك الأيام – وكان يفصلنا عن امتحانها ما يقل عن الشهر بأيام قليلة .. وكنت أجتهد فى المذاكرة قدر استطاعتى حتى أحقق حلمى فى الالتحاق بالجامعة .. فكنا نسهر الليالى أنا وصديق لى على ضوء المصباح الجاز – فشرف دخول الكهرباء لم يكن مُنح لقريتنا بعد – نبدأ مذاكرتنا بعد صلاة العصر ولا ننتهى منها إلا مع الساعات الأولى من صباح اليوم التالى .. أذهب إلى منزله يوما .. ويأتى هو إلى فى اليوم التالى ، وهكذا ..

وكان صديقى هذا يعتقد تمام الاعتقاد فى وجود الأشباح والعفاريت .. وكان يخشى أن يرجع إلى منزله فى الليل وحده بعد أن ننتهى من مذاكرتنا .. وكنت دائما أسخر منه وأضحك من خوفه الذى لا أجد له مبرر .. وأقول له أن كل تلك الأشياء خرافات اعتاد أهل القرية على ترديدها .. فلا وجود للأشباح والعفاريت والنداهة إلا فى حكايات الفلاحين فى أمسياتهم ..

وفى ليلة من تلك الليالى .. وقد انتصف الليل .. والهدوء يغطى القرية بأكملها .. وكأن كل أهل القرية فى نوم عميق إلا أنا وصديقى .. باغتنا البرق والرعد .. فى البداية فزعنا من الصوت .. واتجهنا ناحية النافذة لنشاهد البرق والأمطار .. ونحن نستعجب من هطول الأمطار فى ذاك الوقت من العام ..

كان أمطار غزيرة كأمطار ديسمبر ويناير .. ومنظر البرق مع صوت الرعد يخلق من القرية مشهدا مهيبا يصلح تماما لأفلام الرعب .. ولكنه رغم ذلك كان يبدو جميلا فى نظرى دالاً على قدرة الله وعظمته .. ولم أكن أعلم فى تلك اللحظة أننى سأكون أكثر المتضررين من ذاك المشهد ..

استمرت مذاكرتنا ساعة أخرى مع استمرار الأمطار والبرق والرعد .. وبعدها أنهكنا التعب بعد يوم طويل .. وبدأ التثاؤب يتناوب علينا أنا وصديقى .. إلى أن قال لى أنه اكتفى بما ذاكره اليوم وسيكمل فى الغد .. وكنت أنتظر أن أسمع منه تلك الجملة .. فكذا أنا كنت أحتاج إلى النوم ..

طوينا أوراقنا .. ولملم صديقى حاجاته .. ثم ظل جالسا .. لم يحرك ساكنا .. وأنا أنتظره لينهض حتى أودعه على ميعاد باللقاء فى اليوم التالى .. وانتظرت دقيقة ودقيقتين وهو لازال صامتا ..
- ألن تنهض لتعود إلى منزلك ؟
- نعم .. نعم .. من المؤكد أننى سأنهض
كان شيئا من الارتباك يغلف كلماته .. ولكننى فطنت لما يريد ..
- أعتقد أنك خائف أن تذهب وحدك فى تلك الأمسية ؟
- لست خائفا ..
قالها كمن ينفى عن نفسه تهمة ضُبط متلبس بها أكثر من مرة .. ابتسمت وقلت له سأذهب معك ..
- لا .. لا داعى لذلك .. فأنت متعب .. وأنا لست خائفا ..
كنت أعلم أنه على استعداد أن يبيت معى الليلة .. ولكنه لن يذهب وحده أبدا ..

خرجنا سويا وسرنا نتبادل الأحاديث .. وعندما اقتربنا من الطريق الموصل إلى منزله .. ذلك الطريق شبه المهجور الذى تنسج حوله الحكايات والخرافات فى قريتنا .. لمحت لسانه يلهج بالمعوذتين .. وجسده يكاد يرتعش من الخوف .. فلم أستطع أن أمنع الضحك عن نفسى .. وسخرت منه كالعادة .. وهو يحذرنى من سخريتى .. ويحذرنى من أن تصيبنى لعنة من لعنات العفاريت والأشباح التى طالما حكى عنها أهل قريتنا ..

وصلنا إلى منزله .. وودعنى .. وقال لى كيف سترجع وحدك ؟؟ .. فأجبته بأننى لست جبانا وأخرجت له لسانى .. وبالفعل استدرت للخلف وبدأت رحلة العودة .. ويالها من رحلة ..

كنت أسرع الخطى كى أعود إلى المنزل بعد أن اشتد المطر .. وصوت الرعد يكاد يصم الآذان .. وتعجبت كيف ينام أهل تلك القرية مع هذا الصوت القوى .. ومشيت أدندن بإحدى أغنيات سيد درويش .. ولكن صوتى قد احتبس فجأة وتسمرت فى مكانى .. لقد لمحت ظلاً لرجل .. نعم ظلاً لعملاق .. يبدوا واضحا خلفى .. توقفت عن الحركة .. ونظرت إلى الخلف فلم أجد شيئاً .. فاستدرت وعدت لأكمل طريقى .. ولكنى لا أنكر أن الخوف قد دق أبواب قلبى فى تلك اللحظات ..

مع تسارع الخطى .. وتوالى ضربات قلبى التى أصبحت أسمعها بوضوح كأنها طبول حرب .. تعثرت قدماى فى ذلك الطريق الموحل وانكفأت على وجهى .. شعرت بقلبى يقفز منى .. ولكنى حاولت النهوض .. فلم أستطع .. نعم لم أستطع .. شعرت بأن ثقلاً رهيبا قد كبل قدماى من الخلف ولا أستطيع القيام .. أحاول وأحاول ولكن لا جدوى .. ووضعى لا يسمح لى حتى بحرية النظر إلى الخلف .. وما زاد الأمر سوءً أننى شعرت بصوت أشبه بالفحيح .. فحيح ولكنه ليس بثعبان .. قد يكون صوت أنفاس غليظة متلاحقة .. لست أدرى لماذا تعمل حواسنا بهذه البراعة فى تلك المواقف التى نتمنى فيها أن تكف عن أداء وظيفتها ؟! ..

بلغ الخوف منى مبلغه .. وشعرت بحرارة دموعى على خدى .. وبدأت أحاول الزحف بكل ما أوتيت من قوة .. ونجحت المحاولة قليلا .. لقد تحركت ما لا يزيد عن المتر الواحد وبعدها خارت قواى ..

- أتعرفون ما الذى كان يصيبنى بالرعب فى تلك اللحظات ؟؟
توجهت بالسؤال لأبنائى وأحفادى .. وكانت أعينهم تلمع تحت أضواء الشموع .. وأنفاسهم تكاد تكون تقطعت وهم يتخيليون تلك الأحداث التى أرويها ..
- ماذا ؟؟ ماذا ؟؟
- كان ما يخيفنى هو المجهول .. إننا دائما لا نخشى ما نعرفه .. حتى وإن كان يفوقنا قوة ولديه القدرة على إلحاق الأذى بنا .. ولكننا دائما ما نخشى المجهول .. فأنت تواجه عدواً قوياً تعرفه – مهما بلغت درجة قوته – خير لك من أن تواجه عدواَ ضعيفا تجهله.

ظللت على هذا الوضع .. فترة من الوقت مرت على كالدهر كله .. وباءت كل محاولاتى فى الخلاص بالفشل .. فاستسلمت لمصيرى الذى لا أعرفه .. وبدأت أتمتم بالشهاديتن .. وأقرأ أيات الذكر الحكيم .. مدركا أن نهايتى قد اقتربت ..

تعالى صوت عم محمود وهو يؤذن للفجر .. وكان صوته جهوريا قويا يجلجل فى سماء القرية .. وشعرت بأن الدنيا قد ملأها النور مع ترديد الآذان .. ولكن الغريب حقاً أننى وجدتنى أنهض بسهولة وكأن شيئا لم يكن .. لم تستغرق المسافة بينى وبين منزلى سوى لحظات قطعتها جريا .. وأنا أخشى حتى أن أنظر إلى الخلف ..

دخلت إلى المنزل وأنا متقطع الأنفاس .. فتوضأت وأبدلت ثيابى التى توحلت .. وصليت الفجر .. ولن أدعى أننى استطعت النوم فى تلك الليلة .. لكن شدة التعب ملكتنى من سرقة بعض اللحظات من النوم ..

فى اليوم التالى ذهبت إلى صديقى .. وأنا أنوى ألا أخبره بالطبع بما حدث لى ، حتى لا يسخر منى .. وقرعت باب داره فعلاً .. فخرجت إلى والدته .. فسألتها عليه ..
- السلام عليكم .. ازيك يا حاجة ..
- الحمد لله يا بنى ..
- طه موجود ؟؟
- نعم .. ولكن حرارته مازالت مرتفعة .. لقد أصابته الحمى صباح أمس .. ومن وقتها وهو راقد فى سريره ينطق ما لا يعيه من الكلمات ..
شعرت فى الوهلة الأولى أننى لم أفهم كلماتها ..
- أتقصدين صباح اليوم .. ؟؟
- لا .. إنه صباح الأمس ..
- أأنت متأكدة من هذا ؟؟
- بالطبع متأكدة .. فهو لم يغادر فراشه من وقتها ..

كانت تلك الكلمات كافية جدا لتصيبنى بالجنون .. ورغم كل الخوف الذى أصابنى فى الليلة الماضية .. إلا أننى لن أبالغ إن قلت أن كل هذا الخوف لا يتعدى عشر ما شعرت به فى تلك اللحظة .. بل وفى كل لحظة أتذكر فيها تلك الواقعة ..

شحبت الوجوه .. وبدأ جميع من حولى يتبادلون النظرات .. منهم من يرتجف .. ومنهم من يعتقد أن تلك الحكاية بها لغز أو سر غامض .. لكن لا أحد من الجالسين كان يتوقع أبداً أن كل تلك الأحداث كانت من وحى خيالى ..

تمـــــت

قلبى وقف الحقونى ربنا معاكم